تميزت الانتخابات البلدية هذا العام ببعض المواصفات الملفتة على الصعيد السياسي والإجرائي حيث شكلت العائلات الغطاء والرافعة للقوى السياسية المتمثلة بالأحزاب ،خوفا من الخسارة الواضحة أو لعجزها عن إختراق الثقافة العائلية التي تمتد بجدورها إلى العشيرة والطائفة والقومية حيث لم يستطع الفكر السياسي للأحزاب من تطوير الوعي السياسي والسلوك السياسي لأفراد والجماعات ،التي تشكل بيئته الخاصة وامتداداتها العامة على المستوى الوطني،وانكفأت القوى السياسية للتوافق مع العائلات التي أصبحت فريقا مساويا تحمل صفة الندية للعمل الحزبي حيث تم الإعتراف بتعادل الفكر السياسي مع العصبية العائلية، وتكامل الفكر الواعي مع العصبية الطائفية العمياء بل وأقاد لها في أكثر الأحيان واستطاعت إلحاق الهزيمة به في بعض القرى حيث استعادت العائلات أبنائها المنتسبين للأحزاب لصالح الإصطفاف للإرث العائلي وبقيت العائلات تتحكم بخيارات الأحزاب لجهة العدد التمثيلي أو رئاسة البلدية أو المختارين.
وهنا قد يظن البعض أننا ندعو لحصار العائلات وإلغاء وجودها الإجتماعي أو نسف روابطها العائلية كأسرة كبرى داخل كل قرية أو مدينة أو منطقة،وهذا ما لا تهدف إليه بل أن نقدنا يتجه نحو الأحزاب وليس العائلات ،لفشل الأحزاب في بناء منظومة فكرية وسلوكية تشجع العائلات على مغادرة مواقعها وحساباتها الضيقة، لصالح الفضاء الرحب التي تدعو إليه الأحزاب نظريا وتطبق نقيضه على أرض الواقع، بل أن الأحزاب تتصرف كعائلة كبيرة تحكمها ذات الحسابات للعائلة الصغيرة ،وغالبا ما تنحصر الأحزاب بعائلة رئيس الحزب أو التنظيم أو التيار من أبنائه واصهاره وذوو صلة الرحم ،فيصبح التنظيم السياسي اسير عائلة الرئيس,
وقد كان بعض الأحزاب واضحا في ناموسه السياسي الذي يعتمد على(الله-الوطن-العائلة)وكان الجميع في خدمة العائلة لحمايتها فلا يكون ممثل الحزب رئيسا أو نائبا أو وزيرا وحتى مسؤولا رئيسيا في الحزب إلا من العائلة، وانتقلت هده العدوى إلى بقية التنظيمات والتيارات فصار الصهر والإبن وإبن الأخت وإبن الأخ، هم النواب والوزراء والمديرون العامون والمقاولون وانتقل هدا الفيروس العائلي إلى التنظيمات الثورية والتحررية ولكن بشكل خجول وغير ظاهر وبدأ يعلن عن نفسه شيئا فشيئا في البلديات وغيرها.
ومما يثير الاستغراب كيف يمكن إلغاء الطائفية السياسية والمذهبية ونحن نعود لتغدية وتنمية الثقافة العائلية والتي تشكل المدماك الرئيسي الحزبي للطائفية والمذهبية ،مع غياب الجهد الفكري والاجتماعي والتربوي للخلاص من الطائفية باتجاه المواطنية والتعامل مع الأخر على أساس إنسانيته وحرية معتقده دون عصبية، ومع ان كل الرسالات الإسلامية دعت للحفاظ على الأسرة والاخرين (وانذر عشيرتك الأقربين) باتجاه أن يكون التغيير بدء من النفس (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) ثم الإنتقال لدعوة المحيط المتمثل بالأسرة والعشيرة والحي والمحيط قبل إنتقال الدعوة للأبعدين في العالم مع التأكيد أن رباط الأسرة واجب ديني وأخلاقي إلا إذا تعارض مع العقيدة الدينية لعبادة الله أو تعارض مع المنظومة الأخلاقية العامة، وهذا ما نراه في سيرة أكثر الأنبياء وبأوجه مختلفة فالنبي نوح (ع) الزم بترك ولده يغرق في الطوفان لأنه (عمل غير صالح) وكذلك زوجة لوط(ع)وكذلك والد النبي إبراهيم(ع) لتشمل الامثلة الأب والزوجة والإبن وغيرهم فلا يمكن (لإبن الزعيم) أن تكون له الأفضلية لأنه إبن الزعيم مهما كانت سلوكياته وقدراته.
المنظومة السياسية في لبنان تقوم على مبدأ(إسمع تفرح...جرب تحزن)في كل شيئ في الاصلاحات في إلغاء الطائفية في التغيير وهناك خطابان واحد للمنبر والإعلام تطبعه المثالية والوعظ ،وآخر للميدان تطبقه النوايا المستترة والخفية التي لا تختلف في مضمونها عن سلوكيات الآخرين، وفي المواقف المأزومة والمحرجة يعود الزعماء لخطابهم الطائفي والمذهبي وحتى العائلي يستجدون العطف من الذين ماتوا، فترفع صورهم في المؤتمرات وفي الاحتفالات ويعمم السواد وفاء لمن رحلوا ولا بأس من استعمال دمهم أكثر من مرة طالما أنه يعطي الحياة (للزعماء الورثة).
في الانتخابات البلدية اختبأ الجميع وراء العائلات حتى لا يخسر أحد ،ويتحول الجميع الى فئة الرابحين، طالما أن الإدعاء بالربح وظاهرة(التبني السياسي)حاضرة في كل لحظة، فيعود أبناء العائلات ليرفعوا شعاراتهم الحزبية وتختفي العائلات عن مسرح الرابحين ويقف مكانها الأحزاب الغائبة قبل الانتخابات.
المشكلة في لبنان أنه لا تنطبق عليه مرتكزات قاعدة التنافس المطلقة التي تقول ان كل منافسة أو مباراة أو تحدي سيكون فيه رابح أو خاسر او تعادل في النتائج ،ففي لبنان استطاعت المنظومة السياسية المعتمدة على عدم الصدق أن تقول أن عناصر قاعدة التنافس تفتح خيارين لا ثلاثة(ربح أو تعادل)ولا وجود لخسارة في لبنان، والتبريرات والحجج جاهزة في كل حين، بحيث ينتمي الجميع في لبنان إلى فئة(الخالدون)الذين لا يموتون أبدا لا في السياسة ولا في العائلة ولا في الطائفة.
الأحزاب السياسية في لبنان تحولت إلى عائلات كبيرة ،انضمت إلى منظومة العائلات اللبنانية ولكن بخلطة عصرية جديدة تعتمد على الاستنساخ المهجن أو اللقاح الصناعي عبر الأنابيب الفكرية الخادعة.